كثيرةٌ هي مصاعب الحياة، كثيرةٌ مصائبها، كثيرةٌ أوجاعها التي تحطُّ بنا من حيث لا نشعر، كثيرةٌ مفاجآتها التي تسكننا بالأسى، وتتّخذُ من قلوبنا ملجأ لأحزانها، فلا نقوى على صدّها أو ردّها، ولا نجد لنا طاقةً في مجابهتها، أو الوقوف في وجهها كأنّا بها أعتى الجنود في حربٍ ضروسٍ، فلا نجد أمامنا سوى ارخاء قبضتنا، وإلقاء مكابرتنا أرضًا، والتسليم لهذا الحزن، والرضى بهذي الهشاشة، فإذا بها تحتضننا، وإذا بنا ننزوي وإياها في أبعد مكانٍ لنمارس ضعفنا بطقوسه، دون أنْ نخجل من أحدٍ، أو نظهر أمامه أوهن من بيت العنكبوت.
النفس الإنسانية لا بدَّ أنْ تحتمل الضعف في طياتها مهما كانت قوّتها، ومهما حاولت إخفائه، فالإنسان خُلق ضعيفًا، تستولي عليه جُملة عواطفٍ متناقضة، ما بين حبٍ، وبغضٍ، وكرهٍ، ولقاءٍ، وفراقٍ، واشتياقٍ، وفقدٍ، وضياعٍ، وتشتتٍ، وهلم جرا.. فترى نفسه تتأرجح يمنةً ويسرةً، آخذةً إياه تارةً لأقصى درجات السعادة، ومُلقِيةً به في حضيض الضعف تارةً أخرى.
الإنسان أحوج ما يكون في هذه الحالة واللحظات الحرجة إلى صديق يُؤنس وحدته، ويُقوّيه على ضعفه، ويطرد عنه الوجع والألم
لكن -مما يُلاحظ أيضاً- مهما كانت مسبّبات ضعفنا وهشاشتنا أنّنا نشترك في حالاتٍ عديدةٍ، كفراق عزيزٍ، أو وداع حبيبٍ، وربما غيابه، أو رحيل عن وطنٍ أو أرضٍ، أو موت قريب، فترانا -بطريقة ما- نشترك في هذه الحالات بشكلٍ مقارب، وإن اختلفت أشكال تعبيرنا عن الضعف إلّا أنّنا غالبًا ما نلجأ للوحدة والانزواء في انكساراتنا وخيباتنا، حتى نُداري هذا الضعف ونُواريه عن أعين الناس؛ فلا شيء أسوأ لدى المرء من أنْ يُرى ضعيفًا أو مهزومًا أو مهزوزًا من الداخل، إذ روحه ذابلة، وملامحه باهتة لا حياة فيها!
إنّ الإنسان أحوج ما يكون في هذه الحالة واللحظات الحرجة إلى صديق يُؤنس وحدته، ويُقوّيه على ضعفه، ويطرد عنه الوجع والألم، فماذا لو التقى بصديقٍ مشابه له في الضعف والهشاشة؟! هل يمكن أنْ يتوحّدا ليصبح ضعفه وضعفه قوّة يستعينان بها ليتغلب كل منهما على هشاشة الآخر واستسلامه؟!
في كلّ مرة يأتيني فيها صديقٌ هشٌّ أواسيه، أخفّف عنه، احتضن وجعه، أطبطب عليه إلى أنْ يغفو، وإنْ لم يفعل طردته شرّ طرده، فلا شيء أقسى على المرء من رؤية الضعف يفترس صديقه أو خليله، ويُقصيه عن هذا الوجود، فلا يُسمع له صوت ولا يُرى له أثر!
في كلّ مرة يأتيني صديق يضع هشاشته فوق هشاشتي، وضعفه فوق ضعفي، نسكب دموعنا في نفس القدح، نتكئ على بعضنا كي لا نسقط في هوّة الضياع، كي لا نُنسى في هذا الوجود، كي لا تُمحى آثارنا، أو تَردى أرواحنا، وتذهب من غير رجعةٍ، في كلّ مرة ينتابنا الضعف يجمعنا المكان ذاته، نجلس على مقعد مهترئ في إحدى الزوايا المنسية، يُطرِق الواحد مِنّا تأمُّله في رحابة السماء وضِيْق النفس، أُناظِر روح صديقي الحائرة، أُطالِع ملامح الضياع فيه، والتشتّت الذي يتلبّس وجهه، فأجدني أمام سؤالٍ واحد ووحيد كوحدتنا، سؤال حائر طرحه محمود درويش على الوجود ومضى دون أنْ يترك لنا هَدْيَ الإجابة: "لماذا لا توحّدنا الهشاشة؟!"
تساءل درويش من قبل، وأتساءل أنا الآن، أتساءل في كل لحظة ضعف يمرّ بها كلانا، أتساءل بينما أتذّكر قصيدته "هي في المساء وحيدة" حين قال:-
هي في المساء وحيدةٌ وأنا وحيدٌ مثلها
بيني وبين شموعها في المطعم الشتوي
طاولتان فارغتان
لا شيء يعكر صفونا
هي وحدها وأنا أمام جمالها وحدي..
لماذا لا توحّدنا الهشاشة قلت في نفسي؟!
تصفعني الكلمات دون رحمة، تُعيدني لواقعنا، تُذكّرني أنّنا وحيدان، تُذكّرني أنّنا هشّان، ضعيفان، أنا وأنت يا صديقي، تُذكّرني أنّ ملامحنا ليست بالملامح التي تقوى على مجابهة الحياة والصّعاب، لذا ألا ترى معي أن هذا السؤال الحائر الذي طرحه درويش في القصيدة يتعدّى معنى السؤال؟! ألا ترى أنّ سؤاله يكمُن خلفه رغبةٌ دفينةٌ في أنْ يستقوي الواحد فينا على أحزانه ولو كانت قوّته هذه مستمدة من ضعف غيره، فضعيفان يقوّيان بعضهما بهذا الضعف خيرٌ من ضعيفٍ وحيدٍ يستفرد به الأسى، ويُسلِم روحه لليأس إلى أنْ تأكله الوحدة كما يأكل الصدأ الحديد! ألا ترى معي أنْ درويش ترك لنا دعوة مُبطّنة في قصيدته لتوحيد ضعفنا والقضاء على وحدتنا لنشكّل بها أولى لَبِنات القوة والانتصار؟! فلماذا لا توحّدنا الهشاشة؟!
تعليقات
إرسال تعليق