كتبت جمانة مصطفى
أن تكون شاعرًا عربيًا له جمهور أوروبي يعني أن ترضي رغبة المثقف الأبيض بالشفقة عليك وعلى حضارتك، وأن تستبكيه على بلادك ونسائك وأطفالك، وتروي له قصصًا يفتقدها ويرفضها عن الاغتصاب والتعذيب الجنسي، قصصًا تثير فيه الغريزة والغثيان. فرق كبير بين أن يكون إعجابك بما قدمته أوروبا من معارف وفنون للحضارة هو إعجاب الندّ اللغوي للندّ اللغوي، وبين أن يكون لهاثًا زاحفًا خلف الاعتراف الأشقر، خلف اللجوء أو الهجرة باسم الأدب. هنالك أيضاً فرق لا يجدر تجاهله بين أن تؤمن بالقيم الإنسانية التي تبنتها أوروبا وطبقتها وبين افتعال التوافق القيمي لغايات براغماتية مرحلية. الذنب ليس فقط ذنب مدعي الكتابة ممن انتقلوا من الأمية إلى كتابة الشعر في غمضة عين، الذنب الأكبر يقع على عاتق الأوروبي العامل في الثقافة، الذي هيّأ له غروره أنه قادر على تقييم شعر اللغات الأخرى باستخدام أدوات غير لغوية وغير نقدية، مثل موضوع القصيدة وخلفية الكاتب السياسية، وتعرضه للاضطهاد، بهذا يكون المثقف الأبيض قد صنع بهذه سوقًا للرداءة الأدبية. هذه السوق كحال كل الأسواق يحكمها قانون العرض والطلب، والطلب مرتفع على قصص الحروب وبالتالي زاد العرض. الشعر لا يُقيّم بموضوعه ولا بكاتبه، الشعر يقيّم بذاته، فلا هو بحث ولا هو بيان سياسي ولا هو طلب لجوء ولا هو إعلان استقلال، وعليه فمواضيع مثل الحروب واللجوء وقتل النساء بدافع الشرف وقمع حريات الاعتقاد والتعبير ورفض المثلية لا يمكن أن تصنع قصيدة، هي تصنع حالة إنسانية تفرض علينا قيم حقوق الإنسان حمايتها والتعاطف معها. هذا لا يعني أن التجارب الإنسانية المؤلمة تتعارض مع أن يكون من عاشها وكتبها شاعرًا، لكنها بذاتها لا تصنع شاعرًا، إلا إذا اعتبرنا أن كل من يعيش في ألمانيا بإمكانه رسم غابة، وأن كل من عاش أحداثًا استثنائية بإمكانه أن يصبح روائيًا. حالي حال الكثيرين ممن استثمروا أعمارهم في الأدب قراءة وكتابة وفي عملية رفع الذائقة الخاصة فالعامة، لا نقبل بأي حال أن تفرض علينا لجنة أدبية لا يتحدث أي من أفرادها العربية رأيها فيمن هو شاعر جيد ومن هو شاعر رديء حتى وإن ضمت أهم الأسماء الأوروبية الأدبية المعاصرة، وسواء أكانت لجنة منح جوائز أم ترشيح لمهرجانات، أم مقررة ترجمات. نعلم جيدًا أنك ستصبح مهندسًا أفضل هناك، وطبيبًا أفضل، وصحافيًا أفضل، لكن ليس شاعرًا، وحده الشعر يمتلك هذه الخصوصية: إنه لا يخضع للطبقية الحضارية السائدة، بل على العكس، يتميّز بأنه لا يستورد أدواته من خارج لغته، والأهم أنه لا يكترث لمنظور الآخر ولا يتبناه، فإن فعل فسيتحول لمسخ لغوي مستجدٍ، متهتك البنية وضعيف النار. هذا لا يعني أن كل الشعراء العرب في أوروبا مدعون، لكنه يعني أن أوروبا لم تصنعهم، المنفى هو الذي صنعهم، فإن كنت سعيدًا ببيتك الجديد وجواز سفرك الجديد وثلوجك البيضاء الجديدة فلست ابن المنفى، أنت ربيب الوطن الجديد. مناسبة هذا المقال أنه بلا مناسبة، أي أنه ليس رد فعل غاضب على الاحتفاء باسم لا يستحق، مناسبته أن كمية الرداءة والسخف والركاكة التي تعيد المؤسسات الأوروبية تدويرها ومن ثم تصديرها إلينا على اعتبارها اكتشافها أمست لا تطاق. مناسبته أن حالة ذهنية تجارية كاملة تشكلت لدى من يدعون أنهم أدباء وفنانون هناك تدفعهم لشتم واحتقار الأوطان والناس والتاريخ بحجة شتم الأنظمة والظرف السياسي، وطالما تؤتي هذه الشتائم أكلها. مناسبته الأهم أن السكوت عن هذه المهزلة صار مشاركة فيها أو مصادقة عليها. تحت مسميات خيرية مضيئة وملهمة مثل مساعدة الأقليات والتشجيع على الاندماج ومساعدة اللاجئين ودعم المرأة والشباب تتجاوز المؤسسات الأوروبية عملية البحث الحقيقي عن الأدب بأخذها وتبنيها لما هو قريب منها من الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، ثقافة الاستسهال هذه هي الامتداد المخزي لما مارسته المؤسسات الأوروبية المموّلة للثقافة والفنون في بلادنا حين فضلت من يجيدون الكتابة بالإنجليزية والفرنسية واستنطاق طلبات الدعم بحشو كلمات مثل تمكين المرأة وحقوق الإنسان فيها، متجاوزة المبادرات المحلية الأصيلة والمشاريع الحقيقية التي تشبه مجتمعاتها الأم إلى تلك التي تشبهها هي أو تحاول. ولو شاهد الأجداد المستشرقون ممن قضوا أعمارهم وبددوا ثرواتهم في عمليات البحث الحقيقي في الشرق وآدابه ولغاته وعلومه وعاداته ما يفعله أحفادهم اليوم لأصابهم الخجل من هذا الاستسهال المناقض للفضول العلمي والذي يخلو من أسس البحث والعثور. اليوم أقلب الفيسبوك لأجد مئات "الشعراء" ممن حصلوا على اعتراف أدبي من المجتمعات الحاضنة دون أن يكتبوا لغتها، وأقلب واجهات دور النشر التي تأسست لهذه الغاية فأجد نفس هذه الأسماء وقد احتلت الصف الأول من العرض.
تعليقات
إرسال تعليق