مقال مهم عن الشعر والشعراء للناقد أشرف البولاقي
تنقسم طبقة أساتذة الجامعات – أعني هؤلاء التقليديين الذين أشرنا إليهم في المنشور السابق– إلى نوعيْن:
النوع الأول، الجَعاجعة الحَنجوريون المتقعِّرون، أصحاب الصوت العالي، والدويّ المزعج، الذين يخوضون حربًا بمفهومها العربي والإسلامي، يخوضونها مجانًا في سبيل الشعر واللغة والأدب، وهُم مساكين وغلابة، يظنون أنهم يدافعون عن المؤامرة الكبرى التي تحاك ليلَ نهار ضد العربية والعروبة والإسلام!
وهؤلاء لا خطر منهم، إلا فيما يطمحون إليه، وما يطمحون إليه هذا هو الذي يمثله النوع الآخر
وهُم الأخطر، الهادئون، العقلاء، المتزِّنون، الذين يخوضون حربًا بمفهومها المعاصر، حرب المصالح والمكاسب، هؤلاء لا يعملون مجانًا، إنما يتقاضون أجورًا ومكافأت، ويمتلكون مكرًا كبيرًا، ويصدّرون صورَهم للرأي العام وللثقافة العربية باعتبارهم (علماء) نعم .. يجدون في ذلك لذةً كبرى، ويتمثل مكرُهم الكبير في قولهم: "إنهم "ليسوا ضد قصيدة النثر، (شوف الموضوعية)، أبدًا أبدًا .. ولكن".
وبعد (لكن) هذا يبتلِعون قولَهم كله، ويتراجعون عنه تمامًا، إذ يتفضلون بطرح رؤاهم العميقة، وثقافتهم الرفيعة حينما يزعمون أنهم يرحبون بقصيدة النثر، بشرط أن تدلّهم على ما يُطلِقون عليه الشروط والضوابط، التي هي في الحقيقة شروط قصيدة الخليل وضوابطها!
ولا يحدّثنك أحدهم عن الجمال أو الحرية وعلاقتِهما بالشعر، ولا عن حاجة الإنسان إلى التعبير بأسلوبِه المعاصر، ولا عن علاقة الشعر بالحياة، إنما هو حديث الشروط والضوابط، الذي هو الحديث المضمَر والمستتِر عن الوزن والقافية!
هؤلاء أنفسهم الجاهزون والمستعدون لتحكيم مسابقة عن قصيدة النثر نفسِها، لو أقامتها دولة نفطية باعتبارها – في هذه اللحظة فقط – التطور الطبيعي لقصيدة الخليل!
ومِن حقهم جميعًا، أساتذة النحو والصرف والعروض، والأدب والنقد والبلاغة، مِن طبقة التقليديين بنوعيهما، أن يعتقِدوا ما شاء لهم الاعتقاد في قصيدة الخليل، باعتبارها النموذج الوحيد لمفهوم الشعر، ومِن حقهم تمامًا أن يقتصر جهدهم الفكري والنقدي (إنْ جاز أن نسمّيه جهدًا) في التنظير لِما يعتقدون.
لكن ليس مِن حقهم التحريض على الأشكال الأخرى، ولا السخرية منها، وهو ما يحدث في جامعاتنا المصرية، وهو ما ينقله لنا الطلبة والطالبات، ففضلاً عن عدم إحساسهم بالجريمة الكبرى التي يرتكبونها في حق الأجيال الشابة الجديدة، فإنهم يخونون أمانة العلم نفسِه الذي يتيهون أنهم بلَغوا فيه أعلى الدرجات!
والحقيقة أن أحدًا منهم لم يتفرغ حتى الآن لبيان جماليات الخليل المعاصرة، إنما كل منجزهم في جماليات قصيدة الخليل القديمة، والتي يعتبرون جمالياتِها صالحة للتطبيق على القصيدة المعاصرة، ولعل مناقشات بعضهم للشعراء التقليديين المعاصرين، في المسابقات العربية، تكشف عن هذا الذي أقوله، فكلها مناقشات وأسئلة مِن قبيل ما معنى قولك كذا في البيت الثاني؟ كيف نصبتَ كلمة كذا وحقها الرفع؟ كلمة ا"لأعراب" هل هي مذكّر أم مؤنث؟ وقِس على ذلك.
لم يحدث أن ناقش أستاذٌ واحد فيهم شاعرًا حول الفكرة، ولا حول التجديد، ولا حول الأساليب المغايرة، بل إنهم يعتبرون أي انحرافٍ لغوي في تركيب الجملة الشعرية، سَقطةً مدوية للشاعر!
فإذا تركنا هذه المناقشات، وقُلنا تجاوزًا إنها اضطرارية لظروف التسابق وطبيعة المسابقة، فأين كتابٌ واحد يحاول فيه صاحبه أن يعيد الاعتبار لقصيدة الخليل مدافعًا عنها، مبيّنًا خطلَنا نحن، أو حتى غرضَنا وسوءَ طويّتِنا؟
تعليقات
إرسال تعليق