القائمة الرئيسية

الصفحات




كتب توفيق المصر
الأسرى "أطباء أنفسهم"



مدَّ الأسير فهمي أبو صلاح يده نحو المذياع وأغلقه بخيبة أمل؛ لعدم سرد مقدم البرنامج الدكتور المعالج بالوصفات الطبيعية من الأعشاب، وصفة تخفف آلامه التي اشتدت في إحدى أذنيه، وصرخ صرخة أفاقت رفاقه في السجن.

غاب رفيقه لحظة وعاد جالبًا بيده هاتفًا تم تهريبه إلى داخل السجن، ولحسن حظه أن الأسرى تمكنوا من جلب رقم هاتف الطبيب مقدم البرنامج خلال زيارات أهالي غزة لسجن "رامون" وتناقلوه فيما بينهم.




كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ليلاً حينما دق رقم هاتفه متسائلًا: دكتور هل هناك مجال لطلب وصفة طبية؟، وأتبع ذلك صرخة ضربت جدران السجن التي ضاقت ألمًا من شدة أوجاعه، ثم فقد وعيه.

شدّ رفيقه الهاتف، واستمع إلى وعد الطبيب بالبحث عن وصفة من الأعشاب وخصوصًا مما يتوافر لدى الأسرى داخل السجن، وإذاعتها في حلقته المقبلة ببرنامجه الذي يبث عبر إحدى الإذاعات التي يسمح الاحتلال باستماع الأسرى لها داخل سجونه.

بعد أيام معدودة، خرج الطبيب معلنًا وصفته التي التقطها أبو صلاح فورًا؛ فجلب بصلة وقام بعصرها وتصفيتها بقطعة قماش ثم أفرغ ماءها في علبة "قطرة"، واستمر في تقطير أذنه لـ 5 أيام، إلى جانب بعض الأغذية الموجودة لديه، حتى جاء موعد مراجعة طبيب السجن الذي شخصه سابقًا بإصابة أذنه بمرض السرطان.




صدمة ضربت رأس الطبيب وانهال عليه بالأسئلة: كيف شًفيت بهذه المدة القصيرة؟ فأنت مصاب بالسرطان، ونحن لم نقدم لك العلاج، ومن هرّبه إليك؟؛ ولم يشفع له شفاؤه عند سجانه الذي حرمه من العلاج.

ويعاني أكثر من 5500 أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي أوضاعًا مأساوية، منهم 700 مصاب بأمراض مختلفة و40 بحالة صعبة، فيما ارتقى داخل السجون 222 أسيرًا منهم العشرات نتيجة الإهمال الطبي "القتل المتعمد"، وفقًا لهيئة شؤون الأسرى والمحررين.

علاج وسجن

قبل 4 سنوات عمد الأسير فهمي أبو صلاح (32 عامًا) -من بيت حانون شمال قطاع غزة، والمعتقل منذ العام 2008 إبان اجتياح إسرائيلي لقطاع غزة، وحُكم 22 سنة بتهمة مقاومة الاحتلال-؛ على توجيه مؤشر المذياع لصوت "القدس" المسموح ببثه داخل أسوار السجن ليستمع لبرنامج للطب البديل من الأعشاب، يوجه رسائله بشكل كبير للأسرى الذين يعانون الأمرين لعدم توفر العلاج.

ففي داخل سجن "رامون" مكث أشهرًا يتلوى من شدة الألم، وإدارة المعتقلات لم تقدم شيئًا عدا (الأكامول) الذي تقدمه وصفة لكل الأمراض التي يعانيها المرضى"، حسب والدته الخمسينية منى.


لم يرق لأبي صلاح أن يُسقى أدوية لا يعرف مصدرها ولا يؤمن بها، بعد أن عُرض على طبيب السجن وأخبره بأنه مصاب بسرطان في الأذن ووصف له "الأكامول"، ويومًا يتبعه آخر، أصبح بالكاد يسمع صوت زملائه وحديثهم.

أخبر أسيرٌ، فهمي بأن يستمع لتلك الإذاعة؛ لأن فيها طبيب مختص بشؤونهم وأمراضهم، وبدوره استجاب الأخير لطلبه بوصفة لما أصابه، وقطرّ في أذنه ماء البصل وتلقى أغذية معينة مما تقدمه إدارة السجون، وبعد 5 أيام خرج من أذنه أثناء نومه "صديد"، صرخ لرفاقه بصوت يغلبه الفرح "أنا أسمعكم"، وكررها عدة مرات من شدة ما وصلت إليه حالته. وفق ما أخبر به والدته.

وبعد 10 أيام عُرض على طبيب السجن للمراجعة، وأخبره بشفائه بالكامل، وصُدم كيف حصل ذلك، ولكتمانه وعدم توضيح السبب، دُس بالحبس الانفرادي لشهرين، وبعد خروجه باح بكل تلك التفاصيل لوالدته، طالبًا من عائلته أن تتوجه لشكر الدكتور، ولبت طلبه.

عملية بشفرة "مبراة أقلام رصاص"

ما يزال مشهد العملية الجراحية التي أجراها الأسرى لمريض داخل 4 جدران، حاضرًا في ذهن أحمد الفليت، الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار خلال عام 2011.

9 أعوام مضت على الإفراج عنه، ولا زال يذكر ما كانت تخبره إدارة السجون لأسير مريض، حينما كان يطلب استخراج بقايا شظايا من جسده، "بأن استخراجها قد يؤثر سلبًا"، فشكلت معاناته المستمرة دافعًا لخطوتهم.


فداخل السجن مددوا الأسير وأمسكوا بيديه وأقدامه، وبدأ أسير آخر باستخراج قطع الشظايا من جسده بواسطة شفرة "مبراة أقلام" بلا تخدير، وتُرك الجرح ليتألم مع الوقت، بدون قضب.

فلا أدوية وعلاجات ورغم كل المحاولات التي خاضوها بالإضرابات المتكررة والخطوات الاحتجاجية الطويلة، لم يتحقق تقدم في ملف الأسرى المرضى وملف العلاج الطبي داخل سجون الاحتلال، فلجأوا لمداواة أنفسهم بالعلاج الطبيعي، بحسب الفليت.

واتجه الفليت في كثير من المرات إلى مداواة نفسه بما يتوفر من أدوات، ففي الانفلونزا التي يشير إلى أنها من أكثر الأمراض الشائعة في السجون؛ لأن المكان والأقسام مغلقة فتنتقل العدوى بشكل سريع، يذكر أنه كان يحاول كما وكل الأسرى قدر الإمكان بالاعتماد على المشروبات الساخنة منها المرمية، وأحيانًا المرمية بالعسل.

فهنا "محاولة تفادي الإصابة صعبة جدًا، وعندما يُصاب أول أسير بالإنفلونزا تنتقل إلى كافة الأسرى، وخاصة في فصل الشتاء، وفي ظل عدم وجود تطعيمات ضد الأمراض، فيحاول المرضى تناول مشروبات ساخنة".

"اشرب مي"

وتلخص قصة ايهاب بدير (40 عامًا) من خانيونس والمفرج عنه في عام 2009 بعد ستة سنوات ونصف، نجاة من فكي الإهمال الطبي، حينما قُيد على قائمة الانتظار للعلاج، وحان موعده قبل الإفراج بأسبوع.

وأوضح في حديثه ، أنه ففي العام 2004، أصيب بآلام في بطنه، فخرج إلى "الحوفيش" وهو الممرض الذي قال له بالعبرية "تشتيه ميم" أي عليك شرب الماء الوصفة التي يقولها لكل المرضى، ثم أخبره بأنه سيسجله للعلاج بمستشفى الرملة، وظل ينتظر حتى أخبروه بأن الموعد قبل الإفراج عنه في 25/1/2009 بأسبوع.


قدم الأطباء في المستشفى، زجاجة لونها أبيض لا يعرف هويتها، وأخبروه باعتقادهم بأن لديه فشل كلوي. فقال لهم بدير: "بالنسبة لي باقي لي أسبوع ويفرج عني ولا أريد علاجكم، وأنا لا أعاني من فشل كلوي وفقط أعاني من أوجاع بسيطة حينما أخرج من السجن سأذهب للأطباء في غزة"، وكانت المفاجأة أن الأطباء في غزة أخبروه بأنها أوجاع أملاح وعولج منها.

وكتم بدير آلامه داخله 5 سنوات، ورفض أن يخضع للسياسة التي تتبعها إدارة السجون تجاه من كان يؤلمه شيء بأن يبتلع حبة "الأكامول" -حبة علاج كل شيء-، وذهب إلى مداوة نفسه بالكمون حين توفر في "الكنتينة".

داخل جدران السجن المعزولٌ عن العالم، يبدو توفر الصنف أصعب مما يُتخيل، "فحتى الأعشاب كالكزبرة والبقدونس لم تكن تصل مرة شهر، فالأعشاب الطبيعية التي يصفها الأطباء أو الأخوة في الأسر غير متوفرة في أغلب الأحيان"، يقول بدير.

فحين كان يرغب بصنع شيء لآلام المعدة كانت تتوافر بعض الأعشاب؛ فإدارة السجون تفرض تضييقًا على الأعشاب، و"الكنتينة" تحدد الأنواع حسب مزاجية السجان.

حقل تجارب

بالعودة إلى رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدري أبو بكر، يقول: "إن الاحتلال لا يقدم الأدوية للأسرى ويتعمد قتلهم حتى باتوا حقل تجارب لمصانع الأدوية الإسرائيلية".

ويضيف أبو بكر ، أن "سياسة منع الأدوية قديمة جديدة، و-إسرائيل- تعتبر أنها تقدم الدواء للأسرى، وكانت تقدم حبة الأسبرين لعلاج كل الأمراض، أما الأن فتقدم لكل مريض حفنة من الحبوب، وكأنها اختبار للمصانع الإسرائيلية على أسرانا، فباتوا يعانوا أكثر من ذي قبل، ومنهم من كان عنده مرض واستفحل وظهرت أعراض أخرى".


وأوضح، أن الأسرى باتوا حينما يمرضون، يرفضون أخذ الأدوية؛ منوهًا إلى عدم ثقتهم بما تقدمه إدارة السجون، ولاقتناعهم بأنها غير مناسبة لهم، لافتًا إلى أنها لا ترسل أي مريض للمستشفى إلا إذا كان مصابًا بمرض خطير أو بآلام لا تحتمل، "وعلى حافة الموت".


المصدر : شبكة قدس الاخبارية 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات