كي لا يصدأ السلاح
كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، نحيفًا، صغيرًا، يتيمًا، مثلَ كلّ الفقراء. لكنّني كنتُ "رجلًا"... في نظري على الأقلّ.
ذات يومٍ (يبدو بعيدًا الآن)، أخبرني المسؤولُ في "منظّمة الشبيبة الفلسطينيّة" في مخيّم عين الحلوة أنّ عليّ المشاركةَ في "مسيرة العيد" التي ستنطلق في اليوم التالي، بعد صلاة الفجر.
لم أنمْ في البيت تلك الليلة. لأٔوّل مرّةٍ يُسمح لي بالبقاء خارج البيت طوال الليل، في "النادي،" مقرّ منظّمة الشبيبة، وبالمشاركة في سهرة العيد. كان النادي باردًا ومظلمًا مثلَ كتلةِ سوادٍ خشنة؛ فقد كانت الكهرباءُ مقطوعةً كالعادة، ولا سبيلَ إلى الدفء إلّا بنارٍ مشتعلةٍ، تَحَلّقْنا من حولها، أنا ويوسف وإبراهيم ورامي والسعدي وزياد وأبو عرب وعشراتُ الشبّان والفِتْية والأطفال. حينها، أحسستُ أنّي صرتُ واحدًا من "الشباب،" ومن عائلةٍ كبيرةٍ، أكبرَ من البيت والقبيلة: عائلةٍ اسمُها الثورةُ الفلسطينيّة.
رمى غسّان يدَه الثقيلة على كتفي، ومشينا معًا نحو قاعة البلياردو في الطابق السفليّ، بمحاذاة قاعة ناجي العلي، "المسرح." مدّ يديْه، وفتح عينيْه في وجهي، وقال: "هايْ مهمّتك الأولى أبو وائل (اسمي الحركيّ آنذاك)." وتابع: "ويمكن تكون هايْ بداية الطريق! لكنْ لازِمْ تساعدني بحمل السلاح ونقله للشباب. القِطَع بدّها تنظيف."
رفع حاجبيْه وشدّ على شفتيه. وبسخريةٍ أكمل: "السلاح بيصدّي من قلّة الاستعمال يابا!"
لم أفهم ما قاله، ولا مغزى السخرية في ملامح وجهه القاسية. كنتُ مشغولًا بسؤالِ نفسي: تنظيف سلاح؟ مسيرة؟ ولماذا أنا؟ ماذا أقول لأمّي؟ وهل سأحمل "قطعةً" معهم؟
كان قلبي يرقص مثلَ كرةٍ مطّاطيّةٍ على بلاطٍ ناعمٍ في غرفةٍ فارغة.
ارتفع صوتُ غسّان مجدّدًا: "رح نحمل السلاح الباقي، ونمشي لمقبرة الشُّهدا، نقدّملهم التحيّة والعهد، ونزْرع الريحانَ حوالي قبورهم، وبذاكرتنا، وبعدين نرجع.."
صدحتْ تهاليلُ العيد من مكبِّرات الصوت، وعلت أصواتُ الرجال. كانت الشمسُ قد بدأتْ تبزغ.
شرعْنا بتبديل ملابسنا. ارتدى كلُّ واحدٍ منّا بنطالًا عسكريًّا وكنزةً سوداءَ، وتوشَّح بكوفيّةٍ حمراء، فازدادت ملامحُنا تشابهًا. ثم انتظمْنا في طوابيرَ عسكريّةٍ قصيرةٍ وانتظرنا.
هدرتْ أصواتُ الأطفال والنساء، وراح الناسُ يخرجون من البيوت والزواريبِ الضيّقة مثل أسرابِ الطيور المهاجرة التي كانت محشورةً في نفقٍ مظلمٍ سحيق. الكلّ يسير في شارعٍ واحد. أعلامُ فلسطين وراياتُ الأحزاب الملوَّنة ترفرف عاليًا. حتى أبو جميل النصّاب، ومديرُ المخيّم في وكالة الغوث، والمخاتيرُ، والقياداتُ، وأبو حاتم صاحب الدكّان: كلّهم كانوا هناك.
مرَّت المسيرةُ من أمامنا، فالتحقْنا بها. كان يتقدّمنا الرفاقُ القادمون من "النادي." رأيتُ عبد الكريم بين الجموع. هذا رجلٌ من القدامى الذين لم يتعبوا بعد. كان يخبِّئ سلاحَه ("أخمص طيّ") تحت معطفِه العسليِّ الطويل. التصقتُ به، ومشينا معًا.
تقع مقبرةُ الشهداء على حدود قرية درْب السِّيم. منها تبدأ بساتينُ الحمضيّات والموز، وعندها تنتهي بيوتُ اللاجئين وأحزمةُ البؤس. فإذا رفعتَ رأسَك، رأيتَ مجسَّمًا كبيرًا لمريم العذراء يعانق السماءَ، على رأس تلّةٍ خضراءَ اسمُها مغدوشة. كان مجسَّمًا مخيفًا، رماديًّا، يُذكّر بالموت والحرب. من فوق تلك التلّة، حصد القنّاصُ أرواحَ العشرات من أطفال المخيّم وأهاليه في زمن الحصار، أثناء "حرب المخيّمات" مع حركة أمل، حين كان الموتُ هو ثمنَ قطرة ماءٍ واحدة. كان هذا قبل الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة نهايةَ العام 1987.
روت لي أمّ بيرم، الرفيقةُ الطيّبة التي دفنتِ ابنَها المغدورَ قبل أشهرٍ من ذلك الوقت بسبب السلاح المنفلت في المخيّم، أنّ الشبابَ تسلّقوا تلك التلّة حتّى وصلوا إلى القنّاص المتمركزِ على تمثال مريم، واقتحموا القريةَ في معركةٍ ملحميّةٍ عُرفتْ فيما بعدُ بـ "معركة مغدوشة." سمعتُ العمّ أبا خلدون يردّ عليها: "كيف لو ما كانت العذْرا فلسطينيّة؟ هايْ مريم المجدليّة، أُمّ الشهدا والأنبيا. بس بدّك مين يفْهم." وكان ذلك درسًا جديدًا لي: ستّنا مريم فلسطينيّة!
على وقع الطنابير وطبولِ الكشّاف، يخفق القلب. دخلنا المقبرة. كان المخيّمُ كلُّه يمشي معنا. فوّهاتُ البنادق تعتلي الرؤوسَ، وباقاتُ الريحان مفروشةٌ على الرصيف. لا هتافاتٌ ولا مكبِّراتُ صوت. كان الصمتُ هو الهتافَ والسلاحَ والنشيد.
انتحيتُ زاويةً خلف نصبٍ تذكاريٍّ لم يكتملْ بعد، أتحسّسُ السلاحَ بين يديّ، فأشعرُ برجولتي الجديدة. كنتُ متوتّرًا ومندهشًا، وكان السلاحُ أثقلَ منّي. ولكي يكتمل المشهدُ في رأسي، المتضخّمِ حينها بمشاعرِ الفخرِ والعظمة، طلبتُ سيجارةً من "أبو الليل." لكنّها كانت أثقلَ على صدري من جعبة البارودة.
فجأةً، رأيتُ أمّي وخالاتي وعمّاتي وكلَّ أهلي! هربتُ منهم مسرعًا بين القبور. سيجارة وسلاح؟ ستقتلُني أمّي لو رأتني! ووجدتُ نفسي أقف بين قبريْن، أقرأ ما كُتب على الشاهديْن:
- المغرب، 1955. استُشهد دفاعًا عن الثورة الفلسطينيّة.
- سوريا، 1973. استُشهد دفاعًا عن الثورة الفلسطينيّة.
كان هذا درسي الثاني عن فلسطين: قضيّتُنا ليست فلسطينيّةً فقط.
***
أكتبُ هذا النصّ الآن، في يوم العيد، ومن بيتٍ صغيرٍ في مدينة بروكسل، ليس بعيدًا عن الشارع الذي استُشهد فيه نعيم خضر. كلُّ ما أمتلكُه هو هذه الأحرفُ الهزيلة. وليس في قلبي ما أعتاشُ عليه إلّا الحنينُ إلى المخيّم ومقبرةِ الشهداء - - تلك المساحةِ الخضراءِ اليتيمةِ في المخيّم وفي طفولتي وذاكرتي. ولا درسَ في هذا التجربة الصغيرةِ إلّا فلسطين والسلاح والوفاء، كلّ الوفاء، للشهداء وللمخيّم، في هذا العيد، وفي كلِّ يوم.
هذا كلُّ ما تبقّى لنا من ذاكرة، إلى جانب تلك العبارة التي قالها لي جدّي:
"كلُّ قبرٍ فيه شهيدٌ."
محمد وائل الخطيب
لم يتبقّ من "العيد" في ذاكرتي إلّا المخيّم ومقبرةُ الشهداء.كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، نحيفًا، صغيرًا، يتيمًا، مثلَ كلّ الفقراء. لكنّني كنتُ "رجلًا"... في نظري على الأقلّ.
ذات يومٍ (يبدو بعيدًا الآن)، أخبرني المسؤولُ في "منظّمة الشبيبة الفلسطينيّة" في مخيّم عين الحلوة أنّ عليّ المشاركةَ في "مسيرة العيد" التي ستنطلق في اليوم التالي، بعد صلاة الفجر.
لم أنمْ في البيت تلك الليلة. لأٔوّل مرّةٍ يُسمح لي بالبقاء خارج البيت طوال الليل، في "النادي،" مقرّ منظّمة الشبيبة، وبالمشاركة في سهرة العيد. كان النادي باردًا ومظلمًا مثلَ كتلةِ سوادٍ خشنة؛ فقد كانت الكهرباءُ مقطوعةً كالعادة، ولا سبيلَ إلى الدفء إلّا بنارٍ مشتعلةٍ، تَحَلّقْنا من حولها، أنا ويوسف وإبراهيم ورامي والسعدي وزياد وأبو عرب وعشراتُ الشبّان والفِتْية والأطفال. حينها، أحسستُ أنّي صرتُ واحدًا من "الشباب،" ومن عائلةٍ كبيرةٍ، أكبرَ من البيت والقبيلة: عائلةٍ اسمُها الثورةُ الفلسطينيّة.
رمى غسّان يدَه الثقيلة على كتفي، ومشينا معًا نحو قاعة البلياردو في الطابق السفليّ، بمحاذاة قاعة ناجي العلي، "المسرح." مدّ يديْه، وفتح عينيْه في وجهي، وقال: "هايْ مهمّتك الأولى أبو وائل (اسمي الحركيّ آنذاك)." وتابع: "ويمكن تكون هايْ بداية الطريق! لكنْ لازِمْ تساعدني بحمل السلاح ونقله للشباب. القِطَع بدّها تنظيف."
رفع حاجبيْه وشدّ على شفتيه. وبسخريةٍ أكمل: "السلاح بيصدّي من قلّة الاستعمال يابا!"
لم أفهم ما قاله، ولا مغزى السخرية في ملامح وجهه القاسية. كنتُ مشغولًا بسؤالِ نفسي: تنظيف سلاح؟ مسيرة؟ ولماذا أنا؟ ماذا أقول لأمّي؟ وهل سأحمل "قطعةً" معهم؟
كان قلبي يرقص مثلَ كرةٍ مطّاطيّةٍ على بلاطٍ ناعمٍ في غرفةٍ فارغة.
ارتفع صوتُ غسّان مجدّدًا: "رح نحمل السلاح الباقي، ونمشي لمقبرة الشُّهدا، نقدّملهم التحيّة والعهد، ونزْرع الريحانَ حوالي قبورهم، وبذاكرتنا، وبعدين نرجع.."
صدحتْ تهاليلُ العيد من مكبِّرات الصوت، وعلت أصواتُ الرجال. كانت الشمسُ قد بدأتْ تبزغ.
شرعْنا بتبديل ملابسنا. ارتدى كلُّ واحدٍ منّا بنطالًا عسكريًّا وكنزةً سوداءَ، وتوشَّح بكوفيّةٍ حمراء، فازدادت ملامحُنا تشابهًا. ثم انتظمْنا في طوابيرَ عسكريّةٍ قصيرةٍ وانتظرنا.
هدرتْ أصواتُ الأطفال والنساء، وراح الناسُ يخرجون من البيوت والزواريبِ الضيّقة مثل أسرابِ الطيور المهاجرة التي كانت محشورةً في نفقٍ مظلمٍ سحيق. الكلّ يسير في شارعٍ واحد. أعلامُ فلسطين وراياتُ الأحزاب الملوَّنة ترفرف عاليًا. حتى أبو جميل النصّاب، ومديرُ المخيّم في وكالة الغوث، والمخاتيرُ، والقياداتُ، وأبو حاتم صاحب الدكّان: كلّهم كانوا هناك.
مرَّت المسيرةُ من أمامنا، فالتحقْنا بها. كان يتقدّمنا الرفاقُ القادمون من "النادي." رأيتُ عبد الكريم بين الجموع. هذا رجلٌ من القدامى الذين لم يتعبوا بعد. كان يخبِّئ سلاحَه ("أخمص طيّ") تحت معطفِه العسليِّ الطويل. التصقتُ به، ومشينا معًا.
تقع مقبرةُ الشهداء على حدود قرية درْب السِّيم. منها تبدأ بساتينُ الحمضيّات والموز، وعندها تنتهي بيوتُ اللاجئين وأحزمةُ البؤس. فإذا رفعتَ رأسَك، رأيتَ مجسَّمًا كبيرًا لمريم العذراء يعانق السماءَ، على رأس تلّةٍ خضراءَ اسمُها مغدوشة. كان مجسَّمًا مخيفًا، رماديًّا، يُذكّر بالموت والحرب. من فوق تلك التلّة، حصد القنّاصُ أرواحَ العشرات من أطفال المخيّم وأهاليه في زمن الحصار، أثناء "حرب المخيّمات" مع حركة أمل، حين كان الموتُ هو ثمنَ قطرة ماءٍ واحدة. كان هذا قبل الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة نهايةَ العام 1987.
روت لي أمّ بيرم، الرفيقةُ الطيّبة التي دفنتِ ابنَها المغدورَ قبل أشهرٍ من ذلك الوقت بسبب السلاح المنفلت في المخيّم، أنّ الشبابَ تسلّقوا تلك التلّة حتّى وصلوا إلى القنّاص المتمركزِ على تمثال مريم، واقتحموا القريةَ في معركةٍ ملحميّةٍ عُرفتْ فيما بعدُ بـ "معركة مغدوشة." سمعتُ العمّ أبا خلدون يردّ عليها: "كيف لو ما كانت العذْرا فلسطينيّة؟ هايْ مريم المجدليّة، أُمّ الشهدا والأنبيا. بس بدّك مين يفْهم." وكان ذلك درسًا جديدًا لي: ستّنا مريم فلسطينيّة!
على وقع الطنابير وطبولِ الكشّاف، يخفق القلب. دخلنا المقبرة. كان المخيّمُ كلُّه يمشي معنا. فوّهاتُ البنادق تعتلي الرؤوسَ، وباقاتُ الريحان مفروشةٌ على الرصيف. لا هتافاتٌ ولا مكبِّراتُ صوت. كان الصمتُ هو الهتافَ والسلاحَ والنشيد.
انتحيتُ زاويةً خلف نصبٍ تذكاريٍّ لم يكتملْ بعد، أتحسّسُ السلاحَ بين يديّ، فأشعرُ برجولتي الجديدة. كنتُ متوتّرًا ومندهشًا، وكان السلاحُ أثقلَ منّي. ولكي يكتمل المشهدُ في رأسي، المتضخّمِ حينها بمشاعرِ الفخرِ والعظمة، طلبتُ سيجارةً من "أبو الليل." لكنّها كانت أثقلَ على صدري من جعبة البارودة.
فجأةً، رأيتُ أمّي وخالاتي وعمّاتي وكلَّ أهلي! هربتُ منهم مسرعًا بين القبور. سيجارة وسلاح؟ ستقتلُني أمّي لو رأتني! ووجدتُ نفسي أقف بين قبريْن، أقرأ ما كُتب على الشاهديْن:
- المغرب، 1955. استُشهد دفاعًا عن الثورة الفلسطينيّة.
- سوريا، 1973. استُشهد دفاعًا عن الثورة الفلسطينيّة.
كان هذا درسي الثاني عن فلسطين: قضيّتُنا ليست فلسطينيّةً فقط.
***
أكتبُ هذا النصّ الآن، في يوم العيد، ومن بيتٍ صغيرٍ في مدينة بروكسل، ليس بعيدًا عن الشارع الذي استُشهد فيه نعيم خضر. كلُّ ما أمتلكُه هو هذه الأحرفُ الهزيلة. وليس في قلبي ما أعتاشُ عليه إلّا الحنينُ إلى المخيّم ومقبرةِ الشهداء - - تلك المساحةِ الخضراءِ اليتيمةِ في المخيّم وفي طفولتي وذاكرتي. ولا درسَ في هذا التجربة الصغيرةِ إلّا فلسطين والسلاح والوفاء، كلّ الوفاء، للشهداء وللمخيّم، في هذا العيد، وفي كلِّ يوم.
هذا كلُّ ما تبقّى لنا من ذاكرة، إلى جانب تلك العبارة التي قالها لي جدّي:
"كلُّ قبرٍ فيه شهيدٌ."
تعليقات
إرسال تعليق