عندما يتفلسف المهندسون
غسان سليم
أَنا الخطُ المُستقيمُ المُجردُ والأَصلُ الثاني للتكوينِ بعدَ النقطةِ، في حقيقَتي أنا نقاطٌ لا نهائيةٌ مُتصلةٌ ببعضِها والمُوصِلُ بين بِدايةِ المجردِ ونهايتهِ بلا مُواربةٍ ولا ميلٍ ولا حَيدٍ ...
لا علاقةَ لِي بالأشكَالِ العشوائيةِ ولا بالمُنحنياتِ ولا بالدوائرِ، وإنْ حدثَ عَرضًا ومرَرتُ بِدائرةٍ فإنَّني أَمَسُّها بِرفقٍ في نقطةٍ على محيطِها ... هكذا خفيفٌ وأَمضي.
أَخشى الإِشتباكَ مع الأشكالِ الهندسيِّةِ الأخرى، ليس لي حدَّةُ زوايا المثلثِ ولا صلابةُ المستطيلاتِ ولا لانهائِيةُ الدائرةِ، ولَا أقتربُ من الأشكالِ شبهِ المنحرفةِ لأَنَّها بلا هُويةٍ واضِحةٍ وقدْ تُسيءُ إلى استقامَتي ...
أمَّا الدائرةُ فَشكلٌ محيِّرٌ، لا أَعرفُ من أين مُبتداها ولا إلى أين منتهاها، وتُرسَمُ باللَّفِ والدورانِ ومن ثَمَّ تنغلقُ على نفسها ولكنَّها مغريةٌ للبسطاءِ مثلي...
ذاتَ تهورٍ ولحظةَ جنونٍ... تقاطعتُ مع دائرةٍ ما... لم تكنْ الدائرةُ خطًا كما انا، بل نقاطًا مُلتفةً على ذاتها وتنضَمُّ إلى بعضها باتجاهِ الداخلِ، وكانت تملكُ صفاتِ الجَرمِ السَماويِّ التي تُسمَّى الجاذبية.
كنتُ في بادئِ الأمرِ خطًا خجولًا شبهَ مماسٍ للدائرةِ ثُمَّ أَجبرَني اشتهاؤُها وتكوُّرُها وجاذبيتها، أَن أغيَّرَ مَيلي وأمرَّ بقلبِها ذاك الذي يُسمَّى هندسيًا بالمركزِ ...
كان أمرًا مسلمًا بهِ وبحكمِ صفاتِيَ الهندسيةِ، أَن استمرَ بالإِستقامةِ وأخرجَ من الطرفِ الآخرِ... فَلَملَمتُ ذيلِي ونقاطِيَ وخرجتُ أقصرَ ممَّا دخلتُ...
مأساةُ الخطِّ المستقيمِ وغايةُ حظهِ أن يوازيَهُ خطٌّ آخَر ... يرافقَه في الرحلةِ اللانهائيةِ وعلى مسافةٍ تزيدُ أو تنقصُ ولا يلتقي بهِ أبدًا.
كمْ من الصعبِ أن تكونَ خطًا مستقيمًا ... لا تحيدُ ولا تميلُ وكَأنكَ مكلفٌ باجتيازِ كل هذا العالم لوحدِكَ دون غُفرانٍ ...
كلَّفني الخطُ المستقيمُ المجردُ الكثيرَ من صبري، ومَا أزالُ رغمَ ذلك، أحبُّ الدوائرَ الدائرةَ بالضدِّ من حيرتِي واختلافِ جلِّ صفاتِنا الهندسيةِ عن بعضها، إلا اشتِراكِنا فِي ال DNA ذاته وفي أصلٍ واحِدٍ ألا وهو النقطةُ...
من منظورٍ عُلويِّ* أبدو مستقيمًا أَصلُ بين متضادينِ لكن المنظورَ الجانبي يظهرُني كالموجةِ السينيّةِ ويظهرُ كمُ أقبعُ أَحيانًا في القاعِ كما أنا الآن، وكمْ أعلو بشموخٍ مراتٍ أُخرى ...
لقد دخلتُ طوقَ الدائرةِ الأبديةِ التي اخترتها بنفسي، ومن نقطةٍ على المحيطِ كانت على هيئةِ قصيدةٍ، ولن أخرجَ منها أبدًا إنْ استطعتُ ...
أخيرًا...لا يبدو أنني الآن على وشكِ النجاةِ، وإن تيسرَ لي ذلك، سأخرجُ من جلدِ الإستقامةِ وأنحني كما خطُ ضوءٍ يمرُّ بالقربِ من ثقبٍ أَسودَ في السديمِ ولن أعودَ مستقيمًا البتَّة ...
صباح الخير .. فلسفة رائعة لانها حقيقية ..
ردحذف