القائمة الرئيسية

الصفحات

نوال السعداوي تجربة جيل/مالك الريماوي

 نوال السعداوي تجربة جيل.

مالك الريماوي

الفرق بين إنسان وإنسان هي المعرفة، هكذا تقدم الدكتورة نوال لكتبها، وهذا ما سأبدأ منه ولن أخوض في مضمون ما كتبته الدكتورة نول السعداوي، ولا في الاختلاف حول موتها وجواز الترحم عليها أم عدم جوازه، ولا إن كانت مؤمنة أم غير مؤمنة، ولن أتطرق لمواقفها السياسية من (الثورات والأنظمة في زمن التيه العربي) لأن الأولى تتطلب أبحاثا وتحليلا والثانية والثالثة سأتركها لحراس السماء على الأرض، والأخيرة تتطلب وقفة أكثر شمولا وموضوعية مما ابتغي الحديث عنه هنا.

وهذا جزءا مما تعلمته مما قرأته من كتب لنوال، لقد قرأتها قبل أكثر من ثلاثين عاما، ومنذ ذلك اليوم تعلمت من نوال أن أختلف معها، وأختلف مع ما تطرح ولكن لا أختلف عليها، لأنها لم تكن عقيدة أو فكرة أو حتى شخصا، بل كانت جزءا من قصتي، قصة اكتشافي لذاتي ولعالمي، كانت جزءا من سيرورة نموي وكينونتي.

في يوم ما كنت أتشعبط على جدران بيتنا، مثل قرد لم يعد سطح الأرض يتسع لشقاوته، وبينما وأنا اصعد هنا، واتسلق الباب، وأخترق جوارير ورفوف البيت والحزانة، وقعت يدي في أحد الرفوف على ثلاث كتب، كانت أمي قد أحضرتها من مكتبة خالي، كتب تختلف عن الكتب المدرسية: رواية المستنقع، المركب السكران، الشيوعية بين النظرية والتطبيق، يومها اكتشفت ثلاث قارات جديدة: الرواية، الشعر، الفلسفة. 

انكببت على الكتب الثلاث، اشمها افتح صفحاتها، اتذوق الكلمات، للكلمات طعم مختلف، كلمات جديدة، أركض فيها مع أشعار رامبو "اركض .. اركض.. بلا جدوى والجزر الصغيرة الطافية لا تمنحني أي معنى للانتصار كي اتشبث بها" ورغم ضياعي في عالم جديد من المعاني والكلمات: عالم من الشعر والصور مملوء بالكثافة والجمال، مقولات في فلسفة الكينونة والوعي والمطلق، قوانين في الجدل والتحولات ونفي النفي، ورواية تحكي قصة حب وعواطف، جنون الرغبة، ضعف البشر وسقوطهم... رغم كل هذا التيه الا أنه كما يردد رامبو "سحبتني الأنهار الى حيث أريد"، وكأني أخيرا وجدت نفسي، وجدت السحر الذي كنت اتخيله ولا أجده، سحر الكلمة وسحر المعنى.

وبعد معركة طويلة مع الكتب الثلاث لفك المعنى واكتشاف ما خلف الكلمات، بدأت رحلة بحثي عن الكتب، أية كتب شعر، رواية، فلسفة المهم ان تكون كتبا غير مدرسية، بعد سنوات تعرفت من خلال اصدقاء على عالم من الكتب التي يوزعها النشطاء في الأحزاب الفلسطينية في تلك الفترة تعرفت على توفيق زياد وسميح القاسم وقرأت "آخر صورة في الألبوم"، و"الى الجحيم أيها الليلك"، ووقع في يدي كتيب صغير يبدو أنه من اصدرارات الجبهة الشعبية عن دروس كومونة باريس ومنه تعرفت على كتاب كارل ماركس كومونة باريس وأستلفته من مكتبة النقابة، وكانت تجربة مريرة في القراءة، سنوات وتواريخ وأسماء وعالم من التحليلات والجمل الثورية، وبينما أنا أفكك معنى الكومونة، التي يقول ماركس أنها قد تسحق لكن مبادئ الكومونة ستبقى للأبد... جاء صديق يكبرني في العمر وكان قد درس في الجامعة واقترب من التخرج وعندما شاهد معاناتي في مقارعة مدافع الكومونة وتحليلات ماركس الثورية، اقترح علي أن أبدأ بكتب أقل صعوبة، واستضافني في مكتبته وكانت نوال، هناك تعرفت على رف كامل، "الأنثى هي الأصل"، "المرأة والجنس"، "أوراقي ..حياتي" ....

وأخذت رحلتي مع القراءة منحى جديدا، منحى البحث والاختلاف والخروج من الأفكار المسبقة، كتاب يفكك لك الكثير من تصوراتك الساذجة، ترى كيف تندمج القصة والبحث والتحليل، كيف تجتمع المنهجية البحثية بالمغامرة والجرأة، كيف يتحاور علم البيولوجيا مع الأسطورة وحقائق العلوم الاجتماعية والفلسفة.. كيف ترى أن ما تتعلمه في المدرسة مجتزءا ومجردا وبدون معنى أو وظيفة... 

تعلمت الكثير عن الجسد، تعلمت أنه ليس أعضاء ووظائف وهرمونات فقط بل هو جسد ثقافي محمل بالتاريخ والأساطير والأحكام الجاهزة..وتعلمت أكثر عن المرأة، وأنها ليس الكائن الجميل أو اللطيف، وليست العرض المبهر، بل هي القضية، القضية الأولى، الأصل الأول، الأسطورة الأولى، الألهة الأولى ولكنها جعلت أيضا الخطيئة الأولى والأثم الأول لدرجة أضحت قضية الحرية والعدالة الأولى.. وعرفت أن تقدم الشعوب مقترن بنظرته للمرأة وأن حرية مجتمع ما وعدالته تقاس بموقع المرأة فيه...

لقد تمكنت نوال من اصطحابي إلى مناطق جديدة من البحث والجرأة الذهنية، لكنها بقيت جرأة القارئ، فقد كنت في تجول مع اصدقاء لي في مدينة نابلس وفجأة جذب نظري كتب نوال المعروضة في مدخل مكتبة على دوار نابلس اقتربت وشدني كتاب "الوجه العاري للمرأة العربية"، اقتربت منه كمن وجد ضالته، تناولته بيدي، تأمل الغلاف والعنوان، فتحته وأخذت أتصفحه، اذهلتي عناوين الفهرس، وما سرقته عيناي من سطور وكلمات، ولكن ما جذب نظري واحبطني هو السعر، لقد كتب بعد السعر رقم خمسة، ولكوني اعرف قيمة الكتاب لم أتخيل أبدا أنه يكون سعره خمسة شواقل، وتيقنت أنه خمسة دنانير، أكيد خمسة دنانير، وبعد أن حصيت نقودي شعرت بألم، فما أملكه من نقود لا يكفي، أن أشتري كتاب بخمسة دنانير يعني أن علي العودة الى رام الله مشيا على الأقدام.. ولم أجازف لا بالعودة ماشيأ ولا حتى بسؤال صاحب المكتبة عن السعر.

 ذلك الكتاب الذي عدت بعد حوالي سنة لشرائه بخمسة شواقل والكثير من ضحك مع صاحب المكتبة عندما أخبرته بالقصة، الذي لم يكتف بالضحك، بل بعد تبادلنا الحديث دخل معنا لخلف الرفوف، حيث الكتب التي كانت ممنوعة في زمن الإحتلال وقال اختار ما يعجبك حسب العناوين ولا تقرأ السعر اليوم لن ابيع لا بالشيقل ولا بالدينار، اليوم ثمن الكتب هي القصة التي رويتها لي، يومها أخذت مجموعة من الكتب... أهمها في ذلك الوقت، رواية "كيف سقينا الفولاذ"، و"الرعب والجرأة"، التي كانت البداية للارتحال الى عالم الأدب الروسي توليستوي وديوفيسكي وشالوخوف.. تلك الكتب التي كانت بداية التحول وبداية الإنتقاء. 

ليس وداعا يا نوال، فلم تكوني شخصا، ولم تكوني حكما مسبقا أو فتوة جاهزة بل كنت حافزا على السؤال والبحث، كنت جزءا من سيرورة لم تنته، فقد كنت السؤال، والسؤال لا يموت ولا يُكَفَّر.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات